بعد ان تحترق العاصمة - عبدلله فؤاد محمود (قصة قصيرة)

انتفض جسده المسجي أخي را، أخذت بقايا روحه الهاربة تتجمع من جديد, اقتربت بأذنيها من صدره الملفوف بالضمادات البيضاء، تعالت وتيرة أنفاسه وكأنها تتسابق فيما بينها تعوض ساعات طوال من الخفوت.. لم تتذكر من كلمات الحمد والثناء شيئ ا فقط نظرة إلي السماء تكفي, أخذت تنتظر أن تعود الحياة مرة أخرى إلي جسده المنهك, تنهدت في رضا، لم يخطر بخلدها كل هذا العناء حينما قررت أن تساعد الفدائيين فما دخل خادمة في قصر أحد البشاوات الكبار في القاهرة بهذه االمور ثأرها القديم لم تنساه فما زالت جثة ابيها المترنحة على الحبال في دينشاوي لم تبرح خاطرها، عرفت بعد سنوات من الخدمة أن ابن الباشا يعمل مع الفدائيين او هكذا خمنت.. وكيف ال لقد كان غريب األطوار يسهر إلي طلوع الفجر وال ي رى عليه أثر ال سكر أو ي سمع أن له عشيقة أو حتى يرتاد الكازينوهات او يالحق راقصة ما او ممثلة من الفاتنات كما اعتاد أبناء طبقته،دائما ما كان متجهم سريع الخطى ال تفارق حقيبة سوداء يده, سمعته ذات ليلة يهاتف زميال له، يتحدث بخفوت, كلمات مثل السالح والفدائيين ومدن القناة ومعسكرات اإلنجليز.. يشبه هذا أحاديث الباشا والده كانت هناك كلمات مشتركة بينهما. الفدائيون!! نعم البد أنه منهم او على االقل يساعدهم. لم يأخذ صادق ابن الباشا وقتا ليوافق على عرضها لكنه لم يوافق مجان ا لم يخ ل األمر من مساومة مشروعة.. فها هو بيتها استحال مخزن ألسلحتهم ومشفي ت مرض فيه هذا الشاب الذي لم تتوقع ن يستمر في الحياة طوي لكنه يبدو أنه أقوي من ملك الموت أو ق ل أن ال العجوز أ القدر كان أقوي من كليهما. لم تنتظر العجوز كثي را.. فسرعان ما بدأت الرجفة في التسلل إلي عينيه وكأن روحه تتوسل اإلذن من بارئها بأن تعود للحياة من جديد فما لبث اإلذن أن جاء ي بأن عودي فقد كتب ت علي ك بأن تعايني مأس أخرى. جسده أضعف من أن يواجه جفونه لكنه نجح في ذلك أخي را تراقصت شعلة المصباح فى عينيه, أغمض عينيه هارب ا من سطوة الضوء الذي اجتاح عينه روي دا حتي استطاع أن يفتح عينيه بعد أن اعتادت مقلتاه على الضوء ولكن ما زالت األشياء من حولة تتراقص.. أخذ يدور برأسه ألم شديد يدعس رقبتة و ظهرة، يزداد األلم كلما زادت حركة رأسه حتى استوى بخده األيسر على الوسادة.. التقت عيناهما أخي را, أخذ يستكشف مالمحها.. عجوز تجاوز الستين بقليل وجه أسمر باهت ي ضفي عليها حنان ا لم ت عكره مرارات الزمن والخدمة فى بيت الباشا.. قاوم آالمه وعقد حاجبيه يستفهم عما يدور حوله. لم يكن ردها إال أن وسعت ابتسامتها لتكشف شيخوخة أسنانها أو ما تبقي منها, اكتملت في مخيلته تفاصيل حنانها الذي ظل شباب ا, اطمأنت نفسه قلي ال لكن رقة ابتسامتها لم تتغلب على آالم مفاصله الساكنة منذ ثالث ليال, شيئ ا فشيئ ا تتبدل هذه اآلالم بآالم جسده الذي غربلته الشظايا والرصاصات آالم فاقت كل اآلالم التي تلقاها طول حياته, تقترب العجوز منه بخطوات بطيئة تفتح علبة من علب األدوية المتراصة بغير هدى على منضدة متربة سرعان ما اهتزت بمجرد أن المستها العجوز نطقت أخي را كان صوتها امتدا دا لهذا الحنان الذي لم يعتده -أخبرني الطبيب أن أسقيك من هذا الدواء فور إفاقتك, سيخفف من آالمك كان الذ عا بعض الشئ ذكره هذا الدواء بخمر الخواجة مت ى الذي اعتاد أن يبتاعه وهو ابن الخامسة عشر. لم تمر ثوان كثيرة حتي بدأ يشعر بجزيئات الدواء تصل إلي مواطن األلم.. شعور الخدر و الفتور بدأ ينساب إلي جسده, حدة األلم أخذت في الخفوت دفعه هذا ألن يتكلم.. أخذت الكلمات تتهافت من بين شفتيه, كلمات تكاد ال تلتقي حروفها: من أنتي؟ وكيف أتي ت إلي هنا؟ - زمالؤك حملوك إلي هنا منذ ثالثة أيام, جسدك كان ينزف.. الموت كان أقرب إليك من أكتاف رفاقك. تظهر عالمات القلق علي وجهه, يلتفت بعينيه تجاه الباب تارة والنافذة تارة, وكأنه يستشف الدنيا من ورائهما؟ - ال تقلق يا ولدي إنني أعمل مع الفدائيين, صادق أخبرني بما كنت تفعله في القناة معهم ضد اإلنجليز. ضحك ساخ را: وأن ى لعجوز مثلك أن تعمل معنا. أعقب ضحكاته بسعال شديد وكأن رئتيه تعاقبه على سوء أدبه. م تتغير نبرة صوتها بل ظل كما هو موفو ر الحنان: تنقذ أمثالك.. ر دها لم ل يتأخر إال ثوان لكن ه أشعره باإلهانة.. أشاحت العجوز بوجهها عنه ثم أسرعت لتخرج من عنده. أصبح وحي دا في تلك الغرفة المتهالكة, يبدو أن العجوز قررت عقابه فتركته وحي دا عاج زا حتى عن الوصول لكوب ماء ينزع به لذوعة الدواء العالق في حلقه. لكن سرعان ما عادت سياط األلم تعزف من جديد على جسده, تبسم ساخ را.. يبدو أن خمر الخواجة المغشوش كان أقوى. لم يلبث إال أن اعتاد على سيمفونيته وأسلم نفسه لطبول األلم ومزاميره وما زاد الطين بلة ذاك الفوج المقتحم من ذكريات طفولته, بدأ الشريط من حيث بدأت حياته.. معلق ا في سقف بيت عمته وسوطها السوداني يلهب جسده وليال طوال يتضور جوعا وعطشا, ت عاقبه عمته على مشي أمه البطال.. طالما سأل نفسه وعمته ما البطال!! ولم أعاقب على مشيها هي!!.. لكن ه قرر أال يسأل عمته ثم أال ص ال. يسأل أ ظلت أيامه هكذا حتى جاء اليوم الذي اقتحم فيه الفتوات بيت عمته تتوسطهم امرأة فارعة الطول تكتسي مالمحها بطبقات من ألوان أرعبته أكثر مما ارتعب من سوط عمته.. ثم إذا به في الحنطور بجوارها, تطبع قبلة على جبينه تعقبها بابتسامة أظهرت صفار أسنانها و تقول بصوت مبحوح: أنا أمك وستعيش معي اختلف الوضع كثي را فهو اآلن يأكل ويشرب وينام على سرير.. سرعان ما عادت الصفعات مرة أخرى لكن هذه المرة من أوالد الجيران في الشارع وهم يتحلقون حوله و يصيحون: "ابن العالمة أهو.. ابن العالمة اهو" وما إن بلغ السادسة عشر حتى أصبح جسده مستبا حا للراقصات األخريات يستمتعون بيفاعة شبابه الب كر.. ثم بدأ ذاك السؤال البغيض يراوده: لماذا أنا بال أب؟ لم يخبره أحد عن صفاته.. مواصفاته أو أخالقة أو حتى يجد له صورة. يذكر أنه سأل عمته ذات يوم عنه ألول مرة يرى في عينيها نظرة حنين.. أكان حنين ا ألخيها! أم حنينا لما ض يتستر عليه الجميع. مه فلم يكن جوابها مختلف ا إنه ذات الحنين الذي انبعث من عيني عمته, أما أ لكن ما لبثت أن أعقبته بالدموع. سرعان ما ماتت أمه وعمته ولم يرث من أبيه إال دموع أمه وحنين عمته.. *** "خمورجي و جايبه يشتغل معانا" أول كلمة طرقت أذنيه عندما اصطحبه صادق الزيات ليحضر أول اجتماع للفدائيين.. لم يكن صاحبنا وطني ا أو حتي سمع قبل هذا عن الفداء أو التضحية ولم يفكر أنه سيقاتل أصدقائه اإلنجليز فهو يجني من ورائهم الكثير نظير تجارته مع المعسكرات اإلنجليزية في مدن القناة. وكان هذا سبب اختيار صادق له.. يسمع جي دا أصواتهم وهم يختصمون حول جدوته وخطورته ويسمع مجادلة صادق لهم كأنه حدث باالمس -انه مفيد لنا يعرف الطرق الى معسكراتهم ويعرف عدد كبير من ضباطهم.. سرعان ما وجد نفسه بينهم يدلهم على الطرق ويرشدهم إلي أماكن تواجد اإلنجليز هكذا بال أجر أو مقابل, ال يعرف لماذا يفعل هذا أو ما المقابل وال حتى يجد في نفسه دافع ا لفعل هذا إال أنه يبحث عن شئ لم يعرف كنهه حتى لحظته تلك.. *** -أعاودتك الغيبوبة؟ عادت العجوز مرة أخرى لم تكن تعاقبه على سوء أدبه بل كانت تحمل ما يملئ معدته الخاوية و الباردة. ن لم تستقر المرق في اإلناء إ معدودات حت ال ثوا ى ازدردها.. -ال يجب أن يطول بك الوقت هنا, قد يقبضون عليك في أي وقت. استمع إليها وهو يلوك ما تبقي من قطع اللحم في فمه أخبرها متهكما: إن الحكومة تعرف بما فعلناه لقد ذهبنا لنساعد رجال البوليس المحاصرين في قسم الشرطع في االسماعيلية كان هذا عدفنا! -صحيح قد كنت مصاب ا و لم تعرف بما حدث.. انتظرها لتكمل كالمها فلم تكمل فقط دموع تنحدر على خدها المجعد.. قالها وهو يضغط على أسنانهما الذي حدث يا امرأة؟؟ تكلمي. تنهدت العجوز وهي تحاول إخراج الكالم من بين ركام من الدموع -لقد أحرقوها.. نظرت إليه والدموع تتفجر منهامن هي؟ -العاصمة لقد أحرقوا القاهرة.. ال أحد يعلم من أحرقها؟ -والحكومة ماذا فعلت.. -النار فقط هي من كانت تفعل والنارفقط هي من حكمت القاهرة.. ثم انخرطت في بكاء طويل.. ولكنه لم يبكي مثلها أو هكذا أراد.. لماذا يبكي أصال؟ هل كان يحبها؟ فلماذا إذن غامر بحياته من أجلها؟ فقط لمصلحته.. سيقولون عليه أنه فدائي ض حى بروحه من أجل تراب الوطن المقدس. لماذا إذن هذه اللوعة التي يجدها في فؤاده؟؟ لماذا يخفي حزنه خلف أستار الالمباالة يبدو أن تلك النيران لم تحرق بيوت الخلق فقط.. فأستاره حرقت أي ضا كمثل الذهب إذ ي نقى من شوائبه بالنار.. فيضير ذهب ا خال صا يفتن العيون ويأخذ باأللباب.. تبسم قلي وقال: يبدو أننا كنا ننتظر ال ننتظر النار .. النار هي العالمة.. سنحبها بعد أن تحترق العاصمة 


Comments

Popular posts from this blog

تعلم الأنجليزيه في مليون خطوه (عنوان مضلل)

Labeled

روتين... بقلم يمنى فتحي