تخاريف

حين استيقظت هذا الصباح عبقت غرفتي برائحة كريهه لم استطع التعرف عليها في بادر الأمر, هي رائحة تلك الأحلام القديمة التي تعفنت داخل خزانتي الصغيرة, ممزوجة بتلك الجروح التي تركتها لتلتئم وحدها دون علاج. حين لم استطع تحمل الرائحه اكثر من ذلك ذهبت نحو نافذتي محاولاً تجنب عناء الأصابة بداء الصدري, لكن ما رأيته كان اسوأ من الرائحه المنبثقه من طيات غرفتي; لقد خيم الحزن على مدينتنا فما عدت ارى تلك الوجوه الباسمه التي طالما ارتشفت اعيني منها النظر ذات كل صباح. حل الضباب فوق كل شئ وانا في حقيقة الأمر لا اعرف ما اذا كان موسم الضباب قد بدأ ان هنالك شئ ما اجبره على الحلول.

تذكرت ذات مساء رحلاتي الصباحية حول ارجاء مدينتي فأنني احببت استنشاق نسيم الصباح المعبق برائحة البيوت النائمة, ولاسيما إذا ما تلامست اناملي مع جدران تلك البيوت. لطالما طال اطراف الحديث اذني من نساء الحي عن ما تحمله تلك الجدران في طياتها; عرق ذكورهم وشقائهم مدفون بين شقوق تلك الجدران. احببت تلك الرائحة الذكية, يا ليتها استمرت. لا يفوح من بين الشقوق سوى الموت. مازالت قلوب الساكنين بتلك المنازل تضخ دماً, مازالت حياتهم تمر مرور الكرام, لكن لا شئ سوى الموت يسكن سرائرهم.

بعد ثلاثةً بيوت على يسار منزلي يوجد كوخ صغير تملكته عائلتي منذ قديم لكن لم يعد احداً يستخدمه, على ما اعتقد لم يستخدم هذا الكوخ مذ وقت بناءه. على غرار ما تمليه علي غرائزي قررت ان اقوم بتطهير شامل لغرفتي. ما عدت احتمل الروائح المشاركة لي فيها. وجدت كتاباتي القديمة مدفونة وسط زحام جثث كل من مر بحياتي ورحل, وبجوارهم بقايا مشاعر قديمه مازالت مترسبه, وهنالك اشلاء من قلب ممزق مختبئ بين رتوش الدم المنثور فوق ضحاياي القدام. لقد مضى الكثير من الوقت مذ حاولت التخلص من الحمول الزائده بغرفتي. ربما لا يوجد مفر من تلك القذارة التي احط نفسي بها ولربما لا يوجد مرجع عن الموت الذي بات حولي اينماً لاح نظري للحظات. في نهاية المطاف ادين لنفسي بإعتذار, او لا ادين لنفسي شئ في الحقيقه لا اعلم.

في صباح اليوم التالي لملمت اجزائي المبعثرة من الغرفه وذهبت إلى الكوخ وهنالك قررت ان اتخلص من كل شئ. سأتخلص من ماضي لا يريد ان يموت وسأتخلص من مستقبل لاح في الأفق البعيد ثم اختفى, ومن ثم سأتخلص من بقايا الذنوب والعقد التي لطالما لاحقتني وسببت لي الضيق. لربما هذا للأفضل ولربما اخدع نفسي. ما ملكت يوماً قط شيئاً من اثر الحقيقه, ولقد فات اوان ذلك الأن. مضى صباحان ومساء وفي صباح اليوم الثالث بدأ الضباب في الإنسحاب حتى اختفى كما لم يكن له اثراً من البداية, وعنه رحلت رائحة الموت. عاد الربيع بقوة. تعالت اصوات الأطفال حيث عادوا بضجيجهم يملؤون اركان الحي وتوالت ضحكات النساء في خجل حيناً وفي خلاعة مرات. عادت كل الأشياء إلى طبيعتها بل عادت الحياة إلى الحياه لكن وسط الزحام والضجيج الصاخب بالحياة هنالك بعض الأشياء لم تعد مرة اخرى.

Comments

Popular posts from this blog

تعلم الأنجليزيه في مليون خطوه (عنوان مضلل)

Labeled

روتين... بقلم يمنى فتحي